ما أكثر الأيام التي ألبسناها ثياباً جديدة.. ولقبناها أعيادًا فأطلقنا عليها ما نشاء من أسماء براقة زاهية زكية.. وهي لا تحمل تحت هذه الثياب إلا أقبح المعاني وأسوأ الخصال البشرية.. بل قد تكون هي بعينها وسيلة من وسائل قتل أعمق المعاني الإنسانية.
وهناك أعياد أخرى..
لم تُلوَّث بعبثية عقول تافهة بشرية..
أعيادٌ كانت وما زالت أعظم العطايا والهدايا الربانية ..
أعيادٌ أراد الله بها أن تكون إحياءً لأطهر وأجمل وأعمق وأعظم المعاني الربانية التي تكرَّم الخالق البديع أن يودعها ويضمّنها فطرة كل نفس بشرية..
إن العيد.. أي عيد كان.. إنما هو في المعنى الذي يكون في ذلك اليوم لا في اليوم نفسه.
فما هو المعنى وراء حكمة الله أن يختصنا بفرض عيد لنا، نجد من أسمائه (العيد الأكبر) و(عيد الأضحى) و(عيد النحر).
إنه المعنى وراء كل تلك الشعائر والعبادات.. والأركان والواجبات ..
إنه المعنى الذي بغيره لم تكن لهذه القصة أي قيمة..
القصة التي اختارها الله أن تكون ذلك المعنى الصالح الذي يصحح الله به ألف معنى غير صالح..
إنها قصة عائلة واحدة مكونة من أب وأم وابن.. جسَّد الله بهم أعظم معنى، وجعل لهذا المعنى عيداً تحتفل به آخر أمة تحمل رسالة السماء للأرض.
الأب هو إبراهيم عليه السلام يترك زوجته أُمنا هاجر وابنها نبي الله إسماعيل في أرض جرداء، حيث لا كلأ ولا ماء.
الأم هاجر تستنجد به وتستغيث وهو لا يجيب.. فلما علمت أنه أمر ربها قالت (إذاً لا يُضيعنا الله).
ولتبدأ المكافأة الربانية قبل أن يغادر تاركاً زوجته وابنهما في قلب الصحراء..
فبعد أن فتح الله لهما باب العمل والقبول.. فتح له باب الدعاء ..
فألقى الله سبحانه على قلبه ما شاء ليكون الذي يشاء..
دعوة خالدة فُتحت لها أبواب السماء..
وزلزل صداها أرجاء الفضاء ..
غيرت إلى قيام الساعة تاريخ الإنسانية جمعاء ..
(رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ)..
فهوت الأفئدة.. وتوالت الثمرات.. وما زالت إلى يومنا هذا بعد آلاف السنوات.
سعي الأم في صحراء قاحلة شديدة الحرارة قاسية بحثاً عن الماء واستجابة ربّ كريم للإيمان بالغيب واليقين والسعي ..
ركلة جبريل عليه السلام في موضع ركلة الطفل الذي يتضرع عطشاً..
زمزم.. تروي قاصديها الذين تهوي أفئدتهم للمكان الى آخر الزمان .. معجزة أخرى وعطية من الرحمن.
ولاحقاً جاء دور الاختبار الأكبر للأب..
(فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَىٰ فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَىٰ).
وللابن كذلك..
(قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِن شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ).
نجحا كلاهما في الاختبار ..
(فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ وَنَادَيْنَاهُ أَن يَا إِبْرَاهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَٰلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ إِنَّ هَٰذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ سَلَامٌ عَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ كَذَٰلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ)..
إنها قصة الإيمان بالغيب (الذين يؤمنون بالغيب)
صحراء بلا كلأ ولا ماء وأم تحمل رضيعها وتقول (إذاً لا يضيعنا الله).
رؤيا نبي واستجابته لهذه الرؤيا في (بلاء مبين) كما وصفه رب العالمين.
إنها قصة السعي والإيمان والإحسان.
إنها تجسيد أعظم معنى في الإسلام..
تحقيق معنى لا إله إلا الله..
لا شيء إلا الله.. ولا سلطة مع لله.. لا سلطة المال ولا الجاه ولا حتى الولد أغلى ما يملك الإنسان.
(قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّىٰ يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ).
طوبى لكل من جعل عيده عيد الفكرة العابدة العاملة، لا الفكرة العابثة الخاملة.
طوبى لكل من جعل عيده إحياءً لما في العيد من معانٍ قد تبلدت عند كثير من الناس.
طوبى لكل من جعل من هذه القصة الخالدة وما تحمله من معاني الإيمان بالغيب والعمل والسعي والإحسان نموذجاً وأسلوباً ونمط حياةٍ في كل أعماله في رحلته القصيرة على وجه هذه الأرض الفانية.
قليلٌ هم هؤلاء.. هنيئاً لهم.
طوبى لهم ثم طوبى ثم طوبى للغرباء.
قيل: يا رسول الله! من الغرباء؟ قال: ( الذين يصلحون إذا فسد الناس)
و قال عنهم صلى الله عليه وسلم : ( هم أناس صالحون قليل في أناس سوء كثير) .
وعزاؤنا ودعاؤنا لكل من يفوته المعنى وراء المعنى فهم في عداد الأموات كما وصفهم سبحانه خالق الأرض والسموات.
(أَوَمَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا كَذَٰلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)..
(فَإِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَىٰ وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ)..
كل عيد أضحى..
ونحن وأنتم للإيمان والإحسان أقرب..
وعلى العطاء والإيثار والتضحيات أقدر.
وليد أحمد حسن فتيحي
٩ ذو الحجة ١٤٤١هـ
٣٠ يوليو ٢٠٢٠م
(السبت - الخميس من الساعة 08:00 صباحاً إلى الساعة 10:00 مساءً)